رأيك يهمنا

تابعنا

Facebook Pagelike Widget

آخر المنشورات

زوار الموقع

  • 0
  • 72
  • 42
  • 441
  • 1٬712
  • 199٬443
  • 1٬091

قراءة في كتاب: «لحم الثور البري» 2/ 2

أما الباب الثاني من الرواية والذي أسميته (الريف والحرب التحررية) فقد استُهل بعودة (آيث عبد المؤمن) من مَنْفاهم للمرة الثانية بعد أن مرت سنوات طويلة وهم (بالحاجب فاس)،وذلك بعد أن توترت الأوضاع في فاس ودخول المستعمر الفرنسي، وقد مهد الطريق لهذه العودة رجل يعرف بالفقيه (سي علوش) الذي كان يعيش في قبيلة (آيث ورياغل) وهو مُولي (لآيث عبد المؤمن)، فتحرك بحكمة ليتقدم “السي علوش نحو باب المنزل وأمسك بإحدى يديه بقائمتي الجدي الأماميتن وبيده الأخرى رأسه التي أحناها إلى الأرض ملصقا خطمه إلى خده قبل أن يهوي على منحر الذبيحة بسكينه وهو يكبر: لا إله إلا الله، الله أكبر” فسال الدم وتدفق ملطخا عتبة الباب المقابلة للمسجد “فخرج (بقيش) يتمشى ببطء وصاح: سندعو لاجتماع المجلس القبلي للبتّ في الأمر” ليرد عليه (سي علوش) لقد “رمينا العار بنحر ذبيحة محترمة ولا يمكن رفض التماسنا سنبني منزلنا من جديد”، انعقد المجلس وبعد يوم كامل من النقاش تقرر السماح للمنفيين بالبقاء لكن بعد “أداء اليمين، لذا توجه الجميع إلى مسجد (رمقودام) هناك وقف آيث عبد المؤمن وأعضاء المجلس على جانبي قبر سيدي مسعود وتشابكت أياديهم وحَلَف آيث عبد المؤمن اليمين مقسمين بعدم تكرار الاقتتال”.

مضت الأيام بخير وعاشت القبيلة في طمأنينة وسلام، وفي سردية الرواية يقف الكاتب عند بعض القصص التي تكشف بعض صور الحياة المسيطرة على المخيال الشعبي بالريف حينئذ، أقصد ما قبل الشطر الثاني من القرن العشرين وهلم جرا إلى الخلف، حيث استخوذت الخرافة والشعوذة، فيحدثنا الكاتب عن “الكهف تحت صخرة الغولة” الذي تدفن فيه الكنوز الثمينة وهو معمور بالجن القاتلة! فقد اعتلت صحة أحدهم بعدما رأى الجن في الكهف ومرت عليه سبعة أيام ثم مات… ومن عالم الجن إلى عالم السُّعار وكيف يعامل العرف الريفي مع من عضَّه كلب مسعور” ففي الريف يعمد الأهالي إلى ربط الشخص المصاب – بالسعار – في زواية من الغرفة وعندما يصبح عنيفا جدا يغلقون الباب بالحجارة، وعندما تصبح معاناته قاسية وغير محتملة يقوم أقاربه بسكب الماء البارد من أعلى الجدار على رأسه ذي الحرارة المرتفعة بسبب الحمى، لتنتهي معاناته ويفارق الحياة كما يحدث غالبا في بعض الأحيان” كما أن هذا الداء – السعار – في التصور الشعبي بالريف انبنى على فكرة تطورية لروح شريرة “فتلج الروح الشريرة إلى جسد الكلب ومنه إلى الإنسان، بحيث تسعى إلى التحكم في الرجل المصاب، ويتمظهر ذلك من حين لآخر في تشنجات وخروج الزبد من الفم ورغبة في العضّ، وفي الآخير تتمكن الروح الشريرة من السيطرة الكلية على الشخص المسعور وتؤدي به إلى الوفاة” ومثل هذا حصل لعبد السلام المسعور الذي فر من المدشر متجها إلى فاس للتداوي لكنه سقط في ضيافة مدشر ظنوا أنه مريض وبه حمُى، فاكرموا نزله ومرضوه بغية الشفاء، لكن عندما اشتد به السعار “اندفع عبد السلام إلى الأمام فاتحا فكّيه محاولا عضّ الحارس الذي تراجع إلى الوراء بسرعة وصوب إليه بندقيته ثم أطلق عليه النار”! .

وكما أن العادة تغلب التّعود كما يُقال، فقد عادت العشائر الريفية إلى عادة التناطح والنزاع مجددا، لكنه لم يستمر طويلا وذلك عندما تكلم (الحاج بقيش) في المجلس القروي وقال:” هناك شيء آخر لم يشر إليه أي منكما على الإطلاق رغم أنه أكثر أهمية، ربما قد سمعتم أن الإسبان قد تغيروا، ولم يعد عددهم أقل وغير منظمين أو راضين بتواجدهم في (مليلية) و(حجرة النكور) وحدهما، لقد بدؤوا خلق الاضطرابات في الشرق وقد تصبح الأمور أخطر يوما ما، سيضحك الجميع ويقولون: من هم الإسبان أليسوا مجرد آكلي ضفادع؟ لكن مع ذلك ليس من رجاحة العقل ومن التبصر مواصلة نزاعاتنا الدّموية الداخلية وتصفية بعضنا البعض، هناك ما يجمعنا وما نشترك فيه مع بعضنا أكثر مما يجمعنا مع الإسبان”، من هذا الخطاب الراقي الذي ألقاه (بقيش) على مسامع المتناحرين بدأ حسّ الوحدة والتكتل يتشكل شيئا فشيئا، لتزكيه مغامرة الشاب الشجاع حد التهور المسمى (شعيب) الذي تحركت في نفسه الغيرة والعزة والكرامة بعدما أقْبلت طائرة آكلي الضفادع أو (بويجروان) – دلالة على الإسبان، بحيث كان الجميع في الريف يصفهم بهذه الوصف حتى في الشعر والتراث الغنائي يحضرون بهذا الوصف – على قصف سوق للنساء ناحية (تاركيست) غرب الريف، قتلت الطائرة العديد من النساء ومن بين القتلى فتاة اسمها (رُقية) كان شعيب يريد الزواج بها، لكن “قاتلات النساء وممزقات لحوم البشر” حرمته من هذا الحلم، لذلك “سأقطع حناجرها الحديدية وسأخنقها قبل شروق الشمس” هكذا تكلم شعيب غاضبا من الطائرة ممزقة لحوم البشر، فانطلق ليفي بوعده وبدأ العمل بحصوله على “التعويذة المضادة للرصاص” وحرص على أن تغلفها أمّه برقعة جلد سميكة حتى لا تضيع، وتزود بالزبيب المجفف والخبز والماء وأعد بندقيته وخراطيشه ثم انطلق يريد آكلي الضفاع أين هم؟

سار شعيب من قبيلة (أكزناية) جنوبا، إلى قبيلة (آيث توزين) شمال أكزناية، وبالتحديد إلى قلب القبيلة (مِيضَارْ) حيث رأى من بعيد سرب الطائرات على منبسط من الأرض، فاقترب في ظلمة الليل حتى وصل إلى مخيم جنود الإسبان المستعمرين، تسلل داخل إلى إحدى الخيم فقتل ثلاثة جنود خنقا وطعنا، ثم مضى إلى الطائرات بعد أن ملأ جيوبه بالقنابل” أخرج القنابل اليدوية من جيوب سرواله الواحدة تلو الأخرى وسحب صماماتها وألقى بها في المقعد الأمامي للطائرات ثم أسرع مبتعدا أسفل إحدى المجاري المائية في اتجاه الجبل الذي قدم منه، في الوقت الذي سمع فيه دوي ثلاثة انفجارات متقاربة عمت الفضاء وراءه” ابتعد بكبريائه وهو يرى مشهد الدمار الذي لحق بالطائرات وعلى يقين “أنها لن تلقي أبدا قنابل على الأسوق في جبال الريف، ولن يسرع الرجال الشجعان للانزواء مثل النمل في المخابئ المحفورة في جنبات الوادي”.

 تابع شعيب الابتعاد إلا أن الجنود تتبعوا أثره الذي ينتهي إلى كهف احتمى فيه شعيب، قاوم شعيب الليل كله كتيبة جنود بأكملها، لكن في الصباح وصل خبره إلى قبيلته أنه قتل ومُثل بجسده ولم تشفع له “التعويذة المضادة للرصاص”! فاجتمع الناس وكبراء القبيلة، فدفنوا الشهيد (شعيب) وحيد أمّه، بعد أن حملوا جثته من المكان الذي قتل فيه.

 وبعد الدفن عقد مجلس القبيلة وخطب (بقيش) مجددا مذكرا بما قاله سالفا أن الوقت هو وقت الاتحاد وفض النزغات بيننا “لقد تقدم الإسبان في أراضينا ووصلوا حتى (عزيب ميضار)… لدينا جميعا عدو واحد مشترك فنحن كلنا مسلمون نؤمن بالقرآن” فعزم الجميع على قتال النصارى الإسبان، والدخول في حرب تحررية – بداية العشرينات من القرن العشرين – بعث (بقيش) الرُّسل إلى مجموعة من القبائل للحَشد والاستعداد للحرب، وبعث على الخصوص شابا اسمه (موح أمزيان) إلى (تغزوت) غرب الريف، ليلاقي رجلا هناك اسمه (المعلم موحند) قيدوم صانع البنادق بذاك المكان وصديق جد (موح أمزيان) المسمى (المعلم حميدو) الذي تحسن وضعه بعد تَعلُّمه صُنع البنادق في (تغزوت) وعاد بعد ذلك إلى (آيث عبد المؤمن) فتزوج، نعم هو ذلك جد (موح أمزيان) الذي حضر بدوره إلى (تغزوت) ليبلغ رسالة من (بقيش) إلى (المعلم موحند) يقول فيها: “أن القتال قد اندلع فعلا، وأن رجال تغزوت مطالبين بتقديم الدعم والمساعدة” كانت ردود فعل القوم هناك متباينة فمنهم من رفض بدعوى عدم وصول المستعمرين إليهم ومن رفض لأن القائد (عبد الكريم) – محمد بن عبد الكريم الخطابي أو مولاي موحند (1882ــــــ1963) قائد المقاومة أو حرب التحرر الريفية بشمال المغرب، ومؤسس الجمهورية الإتحادية لقبائل الريف – طلبهم أيضا للقتال والدعم، ليحسم بعد ذلك (المعلم موحند) القول بأمره أن يبلغوا رسول (عبد الكريم) جوابنا بالرفض “من الأفضل أن نرسل رجالنا تحت حماية بقيش بدل الورياغليين…” وهكذا بعد مرور نصف ساعة اتفقوا على “إرسال أربعين رجلا مع موح أمزيان مع حلول فجر اليوم الموالي”.

ومن خلال هذا السرد يتضح أن معسكر الحرب التحررية بالريف لم يجتمع في البداية على زعيم واحد وإنما كان هناك انقسام – جناح يقوده (بقيش) بإكزناية وجناح يقوده (عبد الكريم أو مولاي موحند) بأجدير الحسيمة – وهو ما سيتضح أكثر من خلال الأحداث الآتية:

مشى (موح أمزيان) بالأربعين رجلا التغزوتين إلى (بقيش) الذي كان في مُعسكر المجاهدين بمكان يسمى (عزيب ميضار) في قبيلة (آيث توزين) من الريف الأوسط، هناك عَسْكَر (الحاج بقيش) بثلاثة آلالاف مجاهد من مختلف القبائل الريفية منهم: الجزنائيون والتوزانيون والعمارتيون والورياغليون، وبينما كان (الحاج بقيش) يتفقد الأمور وينظر في حالة المجاهدين هنا وهناك، حتى انتصب مبعوث أمامه حاملا معه رسالة من (عبد الكريم الخطابي) يقول فيها بعد البسملة والحمدلة “من سيدي محمد بن عبد الكريم سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وبعد، أطلب منك سيدي الحاج بقيش أن تبعث على وجه السرعة رجالا إلى المعسكر أسفل (دهار أوبران) لأننا حاصرنا النصارى في جانب من الجبل ونحتاج لعدد كاف من الرجال لدحرهم وطردهم خارج ديارنا، الرجاء إرسال الرجال لوجه الله ومن أجل مرضاة الله وليس من أجلي ما دمنا معا من أبناء آدم، قتلنا أربعة آلاف عسكري من الأعداء ولا زال هناك ألفان يعانون من الجوع ويفتقرون إلى الماء، لقد فقدوا عقولهم بسبب شدة العطش ومن المحتمل جدا أن ينزلوا قريبا من المرتفع لإرواء عطشهم، نخشى ألا يكن لنا رجالنا بالعدد الكافي لمجابهتهم عندما يغادرون المعسكر، لهذا الغرض نحن في حاجة إلى رجالكم حتى نملأ بهم خنادقنا عند قدم الجبل، وهذا ما وجب به الإعلام والسلام، سيدي محمد بن عبد الكريم”. وبعد مشاورة (الحاج بقيش) مع بعض قادته قرر إمداد (عبد الكريم) بثلاث مائة رجل بقياة القائد (مسعود).

 وفي اليوم الموالي وبعد وصول (مُّوح أمزيان) ومن معه، بدأ الزّحف من طرف معسكر (بقيش) وأول هجوم لهم كان على حصون (تَفَرْسِيتْ) غير بعيد عن مُعسكر (بقيش) استمر القتال بين الجنود الإسبان الذين لم يكونوا يتوقعون الهجوم وبين المجاهدين، إلى أن حُوصر الإسبان في بناية ذات طابقين، فتحصنوا بها لوقت من الزمن مع دعم بالطائرة التي تطلق وابل الرصاص بالرشاش، لينجح أحد المجاهدين في إسقاط الطائرات بقنبلة يدوية بعد أن حلقت الطائرة على علو منخفض، فانكسرت شوكة الإسبان بالحصن وفروا عشوائيا، ليلحق بهم المجاهدون في سبيل الله ويعملوا فيهم الرصاص والخناجر…

سقط أول حصن (تفرسيت) بيد (المعسكر الشرقي) بقيادة (الحاج بقيش) وغنموا الغنائم وأجر الجهاد في سبيل الله، فاستمرت الهبة بقيادة بقيش “الذي كان يجري في مقدمة الحملة متجاوزا العديد من الشباب الكثر خفة ورشاقة منه وكان العرق يتصبب منه” في طريقهم نحو حصن (دار الدريوش) فمروا بقرية صغيرة (رَعْبَادَاثْ) التي حاول الإسبان التمركز فيها، لكن دون جدوى فقد استحوذ عليها المجاهدون، وتفقد بقيش الأمور بها وتركها في مأمن ثم تابع المسير وبرفقة (موح أمزيان) و(سي علوش) الفقيه وباقي المجاهدين.

 حل الظلام قبل أن يتمركز المجاهدون حول حصن (دَار الدّريوشْ) التي هي حصن بُني من أجل أهداف حربية فقط، مما كان من الصعب إسقاطه بسهوله، لكن المجاهدين كانوا في حالة ” لم تشهد المنطقة منذ عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مثل هذا الإيمان والحماس، وهذا الاستخفاف بالحياة إلا نادرا، وكان اسم رسول الله يتردد على لسان الجميع” وفي الثالثة صباحا تسللت قاطرة على السكة من داخل الحصن مسرعة إلى (ثِزْضُوضِين) على منبسط من الأرض، غضب (بقيش) لهذا، وأمر فوراً بقطع خط السكة بعيداً عن الحصن، وتم ذلك بسرعة، ليسقط الحصن بعد أن انطلقت قاطرة أخرى محملة بالجنود لتنغمس في الحصى حيث قطعت السكة، فكانت غزوة مبارك للمجاهدين وغنيمة عريضة…

بعد إسقاط الحصن الثاني (دار الدريوش) تداول القائد (بقيش) مع قواده فيما يجب أن يفعلوه بخصوص إسقاط حصن (ثزضوضين) لكن ترجح لدى (بقيش) ايقاف الهجوم آملا “انتهاء عبد الكريم عما قريب من معارك دهار أوبارن ونزوله إلى السهل جهة الشرق لمساعدتنا” خصوصا وأن (ثزضوضين) حصن متين يحتاح تعزيزات قوية جديدة، ولم يمض وقت طويل حتى لاح في الأفق غبار كثيف كأنه حشد من الناس، اقترب الحشد واتضحت الصور إنه القائد (عبد الكريم) ومعه جيش كبير، استقبله (بقيش) خير استقبال، ليَسْأل بقيش بعدها: “هل تمت الأمور كما كان منتظرا في ادهار أوبارن”؟ نعم رد عبد الكريم “لقد قضينا عليهم جميعا …أما قائدهم الجنرال سيلبستري فقد انتحر بمسدسه”.

توطد العمل المشترك بين القائدين وتوحدت أهدافهم لينطلقوا مباشرة إلى إتمام مهمة التحرير لمناطق الريف الشرقي، والبداية من (ثزضوضين) فانقضوا على هذا الحصن بالجيش المشترك وأسقوطه مباشرة بعد قتل المئات من الجنود الإسبان، لسيروا بعد ذلك إلى (أروي أو أعروي أو ربوة الشيهم) ليقيموا حصاراً شديداً عليه، وبعد ثلاث أيام من تبادل النار والحصار، فتحت أبواب المعقل وخرج الجنود الألف وخمسمائة وأسرعوا متفرقين من غير انتظام “كانت وجهتهم هي معسكر سلوان المحصن” الذي كان محاصراً بدوره! انطلق الرصاص من طرف المجاهدين قنصا لكل هدف في الرمى… “لم تتجاوز عملية التقتيل ساعة من الزمن” انتهت المهمة وتم إسقاط حصن(ربوة الشيهم) لينتقل بعدها المجاهدون لدعم حصار حصن (سَلْوَان).

واستمر التقدم شرقاً حتى بلغوا (مليلية) الحصن الذي احتمى فيه الاسبان ومن معهم من المحليين فلم ينجحوا في إسقاطه، وهذا الحصن (مليلية) لا يزال لحد الساعة مستعمرا من طرف الإسبان إضافة إلى مستعمرات أخرى شمال المغرب! ووسط مجريات سرد أحداث ووقائع الحرب هذه دمج الكاتب قصة زواج (موح أمزيان) وسرد في خضم ذلك عادات وتقاليد أهل الريف في الأعراس.

ليعود بعدها للحديث عن “تفكك وحدة جيش المقاومة” وذلك بعد أن خفت وهج النشاط الحربي “الذي أَفقد الرجال ذلك الانتشاء النفسي المحفر، فعادوا إلى التفكير في الأمور الشخصية والآنية” ونشبت الخصومات بين أبناء القبائل المختلفة وكذلك بين القائدين (بقيش) و(عبد الكريم).

مضت الأيام وعاد المجاهدون إلى منازلهم وقراهم للحصاد… إلا أن “عبد الكريم نجح في كسب ولاء القبائل الأخرى التي كانت تساند بقيش في السابق بفضل قوة إرادته والتجربة التي اكتسبها من النصارى” كما أن (الأمير عبد الكريم) استدعى (موح أمزيان) من قريته (أكزنانية) إلى القيادة العامة (بأجدير الحسيمة) فاقترح عليه الانضمام إليه فأجابه إلى ذلك، ليكلِّفه (الأمير عبد الكريم) بمهمة إحضار أربعين رجلا متواجدين في الجزائر يعملون في ضيعات المستعمر الفرنسي هناك وهم ريفييون من قبيلة (أكزناية إهروشن)، ففعل (موح أمزيان) المطلوب وقبل خمسة عشر يوما كان الرجال عند (الأمير عبد الكريم) بالقيادة العامة (بأجدير الحسيمة)، ليعين (موح أمزيان) قائدا على رأس مائة رجل يقودهم في الحرب، تكريما له على هذه المهمة، ليرسل بعد يومين إلى (تغزوت) “وستحل محل القائد المسؤول هناك الذي سيوجه نحو (ورغة) ستقيم العدل فيما تغزوت وتعدم أي متمرد عليك بإخباري بكل يجري كل ليلة عبر الهاتف” هكذا خاطب الأمير (موح أمزيان).

لم يمكث (موح أمزيان) بتغزوت كثيراً، حتى جاءه اتصال يأمره بالإسراع بالسّير إلى (ورغة) جهة الغرب على حدود الحماية الفرانسية الإسبانية، كان الاشتباك هناك متواصل مع الفرنسيين، وسأل(موح) عن قائده (السابق بقيش) فجاءه الرد: أنه كان بالقيادة العامة في أجدير مسجوناً ثم سُرِّح قبل يومين ليمرض بعد ذلك ويموت! استنتج (موح أمزيان) أن (بقيش) مات مسموما!

انطلق مباشرة إلى مهمته وزحف نحو (ورغة) وشارك في الحرب بكتيبته “حقق الريفيون انتصارات سريعة وأرغموا الفرنسين على التراجع إلى مسافة قصيرة من فاس” وكان بمقدورهم الزحف أكثر وإجلاء فلول الفرنسين المبعثرة صفوفهم،إلا أن أمرا صدر من (القيادة العامة بأجدير) أمر بالتوقف والتراجع، فكان خطأ قاتلا، سمح للفرنسين باستعادة أنفاسهم وتعزيز صفوفهم وتعجيل الحركة نحو ورغة مجددا بقوة أكبر تتقدمها “الصناديق الحديدية العملاقة” الدبابات، قاوم المجاهدون ببسالة وشجاعة وسقط منهم الكثير شهداء، وخسروا هذه المعركة وأصيب (موح أمزيان) الذي أحس بضربة قوية في جانب فخذه الأيسر “فمد يده إلى فخذه وأحس بوجود ثقب مشوه في موضع الإصابة”.

مرت شهور عدة، فعاد (موح أمزيان) إلى مدشره (بوادي إهارشن) وهو يعرج في مشيته حزينا كئيبا، ليُنكت عليه جده لأمه، الذي كان جالسا مع مجموعة من الشيوخ أمام باب المسجد قائلا:

“(موح أمزيان) أين تركت رجلك”

فرد عليه: “هناك في ورغة هل لديك واحدة تقرضني إياها؟”

فبشره الجد بعد ذلك ببشرى“من الأفضل أن تسرع بالعودة إلى منزلك زوجتك على وشك وضع حملها وإنجاب مولودها”.

مضت أربعون يوما على ولادة الرضيع، وفي إحدى الليالي خاطب (موح أمزيان) زوجته قائلا: “لامزيد من الأطفال”! بهتت الزوجة ثم سألت باستغراب ” لماذا لا تريد المزيد من الأطفال؟ ألم يعجبك طفلك هذا؟

أجاب “بلى، أنا جد مسرور به إلى درجة أنني أخاف أن أراه مستعبدا”؟! قال هذا وهو يعلم أن المستعمر قد زحف بقوة وتوغل في أراضي الريف “وتقلصت فيه حظوظ النصر بالنسبة للريفين” فقد تم الإنزال الكبير للإسبان بشواطئ (الحسيمة) حيث القيادة العامة بأجدير، مما اضطر (الأمير عبد الكريم) للتراجع ناحية ترجسيت، لتتم التفاوضات بعد ذلك واختار الأمير الاستسلام حتى “يتجنب مقتل المزيد من مناصريه”.

وفي هذه الأجواء التي تغلغل فيه الاستعمار في الريف وتراجع المقاومة يحكي الكاتب عن كتيبة فرنسية ضاعت في أرض قبيلة (أكزناية) التي يعيش فيها (موح أمزيان)، وقد طارد مجموعة من المقاومين الريفين هذه الكتيبة الفرنسية الضائعة التائهة في(وادي إهروشن)، مما جعلها تلج المدشر محاولة منها النجاة، إلا أنها قوبلت إما بالرفض أو اللامبالاة، فاستمر العقيد الذي يترأس الكتيبة بقرع الأبواب لعل وعسى، حتى قرع باب (موح أمزيان) ولم يفتح لهم في البداية إلا بعد أن تلفظ (العقيد) بقولة النجاة (ضيف الله) فانهزم موح أمزيان أمام هذه العبارة التي تحمل ثقلا عرفيا قويا يجعل الضيوف مرحبا بهم ومحميين من كل شر، وكأنه (اللجوء السياسي) بتعبير اليوم، فآواهم (موح) وأكرمهم ثم تدبر أمر خورجهم من المدشر سالمين، مذكرا إياهم أن الأمر يعود لقوة العرف فقط، وإلا لكانوا في عداد الموتى، لأن (موح أمزيان) يعلم أن ملَّة الاستعمار واحدة وعمله واحد هو قهر العباد وإذلال خلق الله، وذلك ما كان بعد أن شد المستعمر زمام الأمور وأحكموا القبضة انقلبوا إلى البسطاء الفقراء ليجرّوهم إلى المقالع لتكسيير الحجارة! ورغم ذلك “سيروي موح أمزيان لابنه حكايات الماضي حتى يعتز بهويته الريفية رغم احتمال احتقاره من طرف الغير”.

 إلى هنا تنتهي رحلة السرد الجميل الرائع لهذه الرواية الفريدة، وقد جسدت من خلال هذه الباب الثاني(الريف والحرب التحررية) وأظهرت كيف أن الريفين يتأرجحون بين أمرين اثنين:

 فإن هم اتحدوا وتعاضدوا فلا أحد يستطيع أن يقف في طريقهم حتى لو كان استعمارا بقوة الاسبان والفرنسيين معا متحديين، فقد دحروهما معا في كل من مثلت الموت (بورد، ثيزي وسلي وأكنول) جنبوب الريف، وفي (دهار أوبران وأغرييبن وأنوال وتفرسيت…) يسطيع الريفيون العمل والابداع فيه إذا تعاونوا وتكاتفوا.

كما أنهم يصنعون المأساة ويجسدونها تماما إذا هم تحركت فيهم الحمية الجاهلية والنزعات القبيلة والهويات القاتلة، فعندها ابتعد خطوات إلى حيث لن تصيبك شظايا نارهم واستمتع بالمشاهد، سيكون شريطا من المشاهد التي تشد المتفرج لا محالة! هكذا هي الأحوال عند أمة من الناس يعيشون شمال المغرب في الريف، وحتى لا أغفل الأمر فكما أنهم يتقاتلون بسرعة دون كظم الغيظ، فإنهم يتصالحون في لمح البصر ويتحدوا فلا تحشر نفسك بينهم فتهلك!.

بقلم: بلال بوزيان

 

التصنيفات

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *