تقـديـم د. ميمون أزيزا
يعتبر البحر الأبيض المتوسّط واحدا من أهمّ البحار، يقع في موقع متوسط على الكرة الأرضيّة، حيث يتّصل بالمحيط الأطلسي من خلال مضيق جبل طارق، ومحاط بقارات العالم القديم الثلاثة؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا. ارتبط هذا البحر ارتباطا وثيقا بتاريخ الحضارات الإنسانية، إذ على ضفافه قامت حضارات عريقة كما ساهم في التبادل الثقافي بين الشعوب بفضل الهجرات التي عرفها عبر التاريخ، مما جعل منه مجال تنوع عرقي ولغوي وديني وثقافي وحضاري. أيضا شكل هذا البحر المدرسة الأولى التي تعلم فيها الإنسان فنون الملاحة وتطورها ذلك أن هدوء مياهه كان عاملا فعالا ودافعا قويا وراء هذا التطور. لقد ظل قرونا طويلة مركزا تجاريا واستراتيجيا مشكلا بذلك مركز العالم. هذا فضلا عن كونه يعد محطة إستراتيجية في الطريق التجاري الرابط بين الشرق والغرب، خصوصا بعد أن تم الربط بينه وبين البحر الأحمر عن طريق فتح قناة السويس سنة 1869.
والجدير بالذكر أن علاقة المغاربة بهذا البحر تستوجب اهتماما خاصا من المؤرخين، ذلك أن ميزة موقع المغرب، مقارنة بالعديد من الدول، هي انفتاحه على واجهتين بحريتين. وإذا كان كل من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي قد اقتسما الريادة في تاريخ البلاد، حيث ظل البحر المتوسط متفوقا على جاره المحيط الأطلسي إلى حدود القرن الخامس عشر، فإنه عقب الاكتشافات الجغرافية الكبرى سيتحول مركز الملاحة نحو المحيط الأطلسي.
في هذا السياق، يندرج كتاب محمد أحميان “الريف والبحر الأبيض المتوسط”، حيث أقدم هذا الباحث الشاب على الخوض في موضوع علاقات سكان ضفتي هذا البحر، من موقع سكان ضفته الجنوبية. وكما يبدو من العنوان يقارب منطقة الريف كنموذج لهذه العلاقة التي توسم اليوم بعلاقة جنوب- شمال.
وبحكم موقعه الجغرافي شكل الريف جزءا من العالم المتوسطي الذي وصفه المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل بأنه شديد التركيب والتعقيد، تتداخل فيه حياة اليابسة بحياة البحر التي هي من القوة بحيث كانت تجذب اليابسة إليها، وتتيح انتقال البشر وتبادل السلع وتداخل الحضارات وتمازجها على نحو لا يمكن معه الفصل بين تاريخ البحر وتاريخ اليابسة التي تحتضنه. لقد سار محمد أحميان على النهج البروديلي فأبرز بشكل واضح انخراط الريفيين في الفضاء المتوسطي واحتكاكهم بحضاراته، لاسيما وأن الريف شكل منطقة عبور ثقافي وبشري بين الضفة الشمالية والجنوبية لبحر الروم.
وبنظرة المؤرخ الفاحص يحلل هذه العلاقة خلال فترة حاسمة من تاريخ الريف المعاصر، والممتدة من العقد الثالث من القرن التاسع عشر إلى حدود الاحتلال الاسباني للريف بعد القضاء على ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1926. وقد شكل الدور الأساس الذي اضطلع به الساحل الريفي في العلاقات المغربية الأوربية مدار الإشكالية الرئيسية التي تخترق الفصول الثلاث المكونة لمتن الكتاب.
ومن موقع اهتمامي بتاريخ هذه المنطقة، لا يسعني إلا أن أهنأ صديقي محمد أحميان على هذا الإصدار الذي يحق اعتباره إضافة نوعية في حقل التاريخ الأكاديمي للريف المعاصر. ونؤكد بالمناسبة أنه شديد الشغف بالتنقيب عن المصادر والوثائق المتصلة بالموضوع وهو ما نلمسه في توظيفه الجيد للمادة المصدرية التي تنوعت بين وثائق الأرشيف الوطنية منها والأجنبية. ونخص بالذكر وثائق دار النيابة بالخزانة العامة بكل من الرباط وتطوان ووثائق الأرشيف بألكلا ذي إناريس بإسبانيا. الأمر الذي أتاح له إنجاز مقاربة رصينة للأحداث والقضايا العديدة التي عالجها من جهة، ومن جهة أخرى حرصه الدقيق على إظهار الحقيقة متجنبا إصدار أحكام القيمة وإبداء الآراء الجاهزة.
ولا يفوتني أن أنوه بهذه الدراسة المونوغرافية التي تصدت لدراسة أهمية البحر في الحياة الاقتصادية والسياسية للبلاد، وهو الموضوع الذي لا زال في طور التأسيس والتراكم بالنسبة للمدرسة التاريخية المغربية. سيما إذا استحضرنا أن الكتابات الكولونيالية كانت تؤكد على جهل المغاربة بشؤون البحر، وعلى عدم درايتهم بالتجارة البحرية، وانعدام أي أثر للبحر في تاريخهم. وفعلا- إلى حدود عهد قريب- لم يحظ دور البحر وأهميته في حياة الريفيين بما يستحق من عناية واهتمام المؤرخين المغاربة. ولا شك أن نشر هذه الدراسة التي تعيد الاعتبار للتاريخ البحري لمنطقة الشمال المغربي، تفيد في التعريف ببعض القضايا وفي إبراز الملابسات المعقدة التي أحاطت بالأحداث التي عرفتها هذه الفترة من قبيل موقف المخزن إزاء النشاط البحري للريفيين ومحاولة القوى الأوربية التحكم في العلاقات التجارية بالمنطقة.
وخلافا لمعظم الدارسين الذي دأبوا على اعتبار الطابع الجبلي للريف هو العنصر الأساس والرئيس المتحكم في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يؤكد صاحب هذا الكتاب بشكل صريح أنه من الصعب فهم واستيعاب كثير من القضايا والتحولات التي شهدتها منطقة الريف، دون استحضار هذه البقعة المائية الحيوية. وبالتالي يصعب الفصل بين تاريخ البحر وتاريخ اليابسة التي تحتضنه، هذا إضافة إلى كون أن هذا النشاط البحري للريفيين شكل عاملا حاسما في تحديد العلاقة التي ربطت الريفيين بالسلطة المركزية من جهة، وبالقوى الأوربية من جهة ثانية. وبغية فهم وتحديد الدور الذي لعبه البحر في تاريخ المنطقة، يطرح المؤلف مجموعة من الأسئلة الجوهرية والموجهة لعمله، وتخص علاقة الريفيين بمجالهم البحري والأهمية التي يحتلها في حياتهم، كما تهم طبيعة هذا الساحل ومدى اعتباره مجالا حدوديا أم مجالا للتواصل والانفتاح على الخارج.
وفي المحصلة يقدم هذا الإصدار قراءة جديدة للعلاقة التي تربط منطقة الريف بالبحر المتوسط، ويسلط الضوء على الدور الإيجابي الذي لعبه هذا البحر عبر العصور باعتباره فضاء للتلاقح الحضاري والتسامح والاختلاف. ويطمح الباحث من خلال هذا الكتاب إلى ملأ الفراغ الذي يطبع البحث التاريخي فيما يخص العلاقة التي تربط الريف والريفيين بالبحر، والتي حددت كثيرا من معالم واقعه التاريخي، والبحث في انعكاسات البحر على المجتمع، انطلاقا من أن المجتمع الريفي، من منظور المؤلف هو كيان ناتج عن هذه العلاقة.
تبقى الإشارة إلى إن هذا الكتاب هو في الأصل أطروحة جامعية نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في فاس- ظهر المهراز في ماي 2015، وهو بالتالي ثمرة جهد عدة سنوات من ملاحقة ودراسة المصادر والوثائق المغربية والإسبانية ذات الصلة بالموضوع. فحق للدارسين والباحثين المهتمين بتاريخ الريف أن يستضيئوا بما يقدمه هذا الإصدار من حقائق تاريخية هامة وتحاليل معمقة جديرة برفع اللبس الذي يكتنف بعض جوانب تاريخ الريف المعاصر. ونعتقد بكل صدق، أنه يعد الأكثر اكتمالا مما كتب إلى حدود اليوم عن التاريخ البحري للريف، ولكل هذه الاعتبارات فإني سعيد جدا أن أقدمه للقارئ الكريم.
منقول من موقع الجمعية المغربية للبحث التاريخي
0 تعليق