صدرت في بداية أكتوبر الماضي رواية “لحم الثور البري” التي هي ترجمة لرواية (Flesh of the wild ox) الأنثربولوجي الأمريكي (كارلتون ستيفنس كون) الذي كتب فصولها خلال سنة(1932)، كما أنه عاش في قبيلة (إگزناية) من الريف الأوسط جنوبا (شمال المغرب) ما بين (1926 – 1928) وأنجز أطروحة الدكتوراه حول نفس القبيلة سنة (1928) في جامعة هارفارد تحت عنوان (قبائل الريف)، وقد عمل (الأستاذ عبد المجيد عزوزي) مشكورا على ترجمة الرواية إلى اللغة العربية لترى النور في بداية (أكتوبر 2020)، فما الذي تحمله الرواية في طياتها؟
بداية، فالرواية من الناحية الشكلية ألبست حُلة بهية حمراء، وعلى واجهة الغلاف صور رجل بلباس ريفي تقلدي – جلباب صوفي – وفي يده بندقية ويصوب نظرة ثاقبة في الآفاق،كما أن الرواية في طبعتها الأولى عن دار (سيلكي أخوين طنجة)، وقطع الورق من الحجم المتوسط، وتقع في 345 صفحة، موزعة على بَابَين وواحد وأربعون فصلا وتقديم مقتضب.
هذا من ناحية الشكل، أما المضمون فإني عملت على قراءة الكتاب قراءة وصفية تحليلة إلى حد ما، وبناء عليه، فالكتاب استُهلَّ: بتقديم كان بقلم (أرنيست ألبيرت هوتون) الذي قدم فيه لهذا العمل باقتضاب، فأشار إلى جغرافيا المكان الذي تدور في أحداث قصة الرواية “الريف المغربي الممتد على شريط المتوسط” وكذا الزمن الذي عاش فيه المؤلف بالريف ما بين (1926 – 1928)، وكذلك تحديد عرق وهوية سكان المنطقة المدروسة من طرف المؤلف وهم الأمازيغ المسلمون سكان شمال أفريقيا، وإن كان صاحب التقديم يطلق حكما قيمة بقوله أن الريفين “هم أفضل من حافظ على النموذج الأمازيغي القديم والخالص للحياة والذي لم يتأثر بالدين الإسلامي”! فلا أدري كيف كانوا مسلمين ولم يتأثروا في نفس الوقت بالإسلام! كما أن الإسلام لا يصادم أي هوية ما لم تتعارض مع أصوله. هذا ويشيد (أرنيست) بالمغامرة التي قام بها المؤلف رفقة زوجته إلى أرض الريف، ويعتبر “أن هذه الرواية ذات المسحة الصارمة والتي تطبع جميع مقاطعها سخرية سوداء تقدم لنا تعريفا أوضح وأدق من أي وصف شفوي لهذه الشخصية الريفية الفريدة”، ومبرزا كذلك قوة السرد المتسلسل لأحداث الرواية ومدى شده للقارئ، ويختم بقوله “اعتقد أن القضاء على استقلال الريفين قد أدى إلى تفكك ثقافة قوية متماسكة… فقد تم القضاء على العهد البطولي في المغرب بسبب جشع الدول الأوربية ذات التوجه العسكري”. وللإشارة فكل الكلام الذي أضعه بين “” فهو منقول بالحرف من الكتاب دون أي تغيير.
عموما، فالرواية تحكي قصة عائلة عريقة يفصلها عن بداية القرن العشرين زمن متراخ طويل، والحكاية بدأت مع قرار أسرة بسيطة مكونة من زوج هو (عبد المؤمن) وزوجته الرحيل عن المنطقة التي عاشوا فيها بالريف الشرقي إلى وجهة غير مأهولة يكونون هم البذرة الأولى للحياة والعمران فيها، كذلك كان، فعزموا الرحيل نحو غايتهم، مرّورا بكثير من الصعاب وهم يبحثون عن المكان المناسب، وفي طريقهم صادفوا رجلا صالحا ذو نزعة صوفية وهو “الولي سيدي مسعود” الذي علّم عبد المؤمن معنى الشهادة “لا إله الا الله محمد رسول الله” التي كان عبد المؤمن يحفظها كما يحفظ آيات القرآن دون إدراك معناها بحيث يرى هذا الأخير أنه “لا رغبة له في التعود على لغة العرب التي لي كرغاء أكثر منها ككلام يتحدث به البشر”! ليرد عليه الولي المتصوف بقوله: “لولاهم لبيقينا جهلة كالكفار القاطنين أسفل هذه الوهدة”! والكفار هنا حسب السرد هم مجموع الناس من المسيحيين والمجوس واليهود، مما يوحي بتعدد المعتقدات في المغرب القديم والوسيط، فاستأنفت الأسرة سيرها بعد توجيه الولي الصالح لها، وبعدما رأت من كرامته ما يثير العجب، فالله يرسل له كل مساء “ما يكفي من الطعام خبزا طريا مدهونا بالسمن والعسل”.
وصل عبد المؤمن وزوجته إلى “وادي إهروشن” هذا الواد الغريب الذي يزخر بالحياة بكل أشكالها الطبيعية، الماء والغابة والنبات والحيونات حتى الأسود والضباع والثعالب… ليرى عبد المؤمن وهو حيرة من أمره مسجدا بني بإتقان ومصبوغا بالبياض ومسقفا بأعمدة خشبية، فاقتربت منه الأسرة ليروا روعة المسجد عن قرب، دخل عبد المؤمن ليصلي في هذا المسجد النائي العجيب” كان المسجد خاليا ولا يبدو أنه من بناء الإنسان بل معجرة إلهية شيده الله هنا لفائدة المؤمنين” فمع هذه المعجرة ستستقر الأسرة وتحط رحالها وتبدأ الحياة في “وادي إهروشن”.
هذا ما خطه الكاتب في الفصل الأول وسماه (البدايات) فكانت بذلك تأطيرا للرواية ومدخلا لها، وكما أشرت سابقا أن الرواية مقسمة إلى واحد وأربعين فصلا، وبنقصان فصل (البدايات) صار العدد هو أربعين فصلا، وبالتالي حاولت جمع ودمج الفصول المترابطة التي تشخص نفس الواقع وتضم نفس الأفكار تحت عنوان واحد ليسهل الإحاطة بما رحب من أرض الرواية، وتماشيا مع تقسيم المؤلف الرواية إلى بابين، الأول يمكن تسميته: (السيكولوجيا الريفية والهويات القاتلة) ويضم خمسة عشر فصلا الأولى، أما الباب الثاني وأسميته: (الريف والحرب التحررية وقائع البداية والنهاية) ويضم ما تبقى من الفصول.
ونستهل الحديث عن الباب الأول: (السيكولوجيا الريفية والهويات القاتلة).
بعد وصول (عبد المؤمن) لمُستقرِّه بوادي (إِهْرُوشَن) رُزق بمولدين ذكر اسمه (موحند) وأنثى اسمها (ثَاثْنُوتْ) ثم مرت السّنون فتزوج عبد المؤمن ثلاث نساء أخريات، واحدة من نفس القبيلة (اكْزَنَّايَة) واثنين (وَرْيَاغْلِيَتَين)، وهذا التّعدد يعد شرعا وتقليدا في الريف ودليلا على الرفاه وعظمة الشأن، فتفتقت عن عبد المؤمن ذرية كبيرة، وصار وادي (إهروشن) عامرا بالناس، سواء من ذريته (كآيث ثانثوت) (وأيث فارس) أو من غير ذريته، وبعد وفاة (الوالي الصالح سيدي مسعود) خلفه والي آخر اسمه (سيدي عبد الله الحولاني) جاء من ناحية الغرب للقضاء على أثر الوثنية عند بعض البطون (الكزنائية) القريبة مثل: بطن (ثِيدَاس)، وهذا أيضا يكشف عن الحضور الصوفي في المغرب ودور الزّاوية في ترسيخ العقائد الإسلامية، وقد قال صاحب كتاب النبوغ المغربي “ينبت الصالحون بالمغرب كما تُنبت الأرض الكلأ”.
تسلسل نسل عبد المؤمن وصار له أحفاد وأبناء الأحفاد، ونقف عن حفيده المسمى (مُّوحْ) هذا العبقري الذكي الذي ابتدع حيلة ماكرة ليبني منزلا فخما في إحدى القلل الجبلية العالية، ففكر كيف يجمع كل الخشب الضروي وحده، فالتجأ الى اللعب بعقول السُّذج الذين استمعوا إليه وهو يحكي لهم حلما رأى فيه آلة عظيمة سريعة تستطيع حمل خمسين رجلا وتركض بهم! فشوقهم لصنعها فجمعوا له ما يحتاجه من الخشب ليبني بيتا وليس آلة! إنه (مّوح) الماكر الذكي، هذا وقد تزوج بعد ذلك إلا أن زوجته عجرت عن الحمل، فالتجأ إلى ما هو جري به العمل في العرف “مساعدة السحرة والطلبة” ليصفوا له الوصفات ويكتبوا له التعاويذ، لكن العقم استمر إلى أن شاب شعر (موح) وشاخ، فرُزق عندئذ بولد سمّاه (حْمِيدُو) الذي سيعيش يتيما في (تغزوت صنهاجة اسرار) جهة الغرب، بعيدا عن مدشره وقبيلته (اكزناية) فتعلم صناعة البنادق هناك في تغزوت، لينتقل بعد زمن طويل قضاه في (تَغْزُوتْ) عائداً إلى أصله (وادي إهروشن) بقبيلة أكزنانية العامرة بالسكان.
ونظراً لتضاعف النزعات والهويات القاتلة ازداد الطلب على سلعة (حميدو) البنادق التي صارت ضرورية للدفاع عن النفس، فقد “انخرط الجزنائيون في نزاعات دموية مع جيرانهم الورياغلين شمالا والعمارتيين ناحية الغرب” فانتعشت تجارة (حميدو) الذي تزوج منذ مدة ورزق بذرية: (علي أُوْرَاغْ أوعلي الأصفر) وهو البكر و(عْمَارْ أَقَشَّارْ أو عمار الأقرع) و(مَيْمُون) و(حميد) وقد رافقوا أباهم في رحلته إلى الديار المقدسة (مكة للحج)، مما جعل مكانة (الحاج حميدو) ترتفع بين القوم وصار هو صاحب النصيحة والمشورة والقول السّديد، وحتى أنه” يَخْتار فقيه المسجد ومُحفِّظ القرآن لأبناء المنطقة” وهذا له دلالة في المخيال الشعبي بالريف كبير، اعتبارا لمكانة الشعائر الإسلامية عندهم وتعظيما لكل ما له علاقة بالدين الإسلامي ولا زال الأمر كذلك في بعض القرى والبوادي، فأن يقدم الفرد لاختيار إمام المسجد فهو شأن عظيم.
وفي إحدى جلسات أسرة (الحاج حميدو) وبعد تناول عشائهم وبدأوا بإعداد الشّاي فوق المجمر الفخّاري، تقدم الابن البكر (علي أَوْراَغ) وفي يده محفظة جليدية متينة متنقنة الصنع فأخرج منها مسدساً جميلا أهداه لوالده، وأتبعه المسدس بثلاث خناجر معقوفة ومنقوشة بمهارة أهداهم لأخوته، وبدأ يسرد حكايته وكيف حصل على هذه الغنيمة في مدينة فاس، وبطولته في سرقة بنك تابع للانجليز…
وبعد ذلك ينتقل بنا الكاتب إلى ما يمكن نقف عنده فنتعرف من خلاله على سيكولوجيا الإنسان الريفي في تعامله مع ثنائية (الشرف والعار)، فبعد أن أتم (علي أوراغ) حكاية مغامرته وبطولته، انصرف الجميع للنوم وتمدد الإخوة الذكور مع بعضعم في غرفة واحدة، ليتسسل أحد الإخوة إلى جانب (علي أوراغ) ليخبره أن أخته (منى) قد انتفخ بطنها وهي حامل! أي واقعة زنى! سأل (علي أوراغ) عن الفاعل فقيل له: أنه (عبد القادر ابن الفقيه)، إذن سيتزوجها مرغما قال (علي) ليأتيه الجواب: أن الفاعل هرب إلى بلاد العرب – مدن المغرب الداخلية – رد (علي أوراغ) سأقتله عندما يعود “لكن علينا أن القوم بالواجب الآن ولا يجب أن يعرف الأمر وسط عائلتنا هل لديك حبل؟” قيد الأخوين أُختهما بعد أن خنقوها حتى الإغماء ثم سارا بها إلى أبعد نقطة في الخلاء وحفرا قبرها ووضعها (عمار) في قعره، وطعنها (علي أوراغ) طعنات مميتة وحثَّا التراب عليا وعادا للمنزل لاستئناف النوم!.
وفي الصباح بدأت البحث لكن إشاعة تقول بأن (مُنَى) رحلت وفرت من هنا إلى مكان مجهول! غلبت الإشاعة الحقيقة وانتهت حياة (مُنى) هكذا، أما صاحب الفعلة (عبد القادر بن الفقيه) فسيُقتل بعد سنوات مسموما من طرف أخ (منى) الذي هو (عمار أقشار) بعد أن أعدّ له رجل اسمه (حَمو) سُمًّا قاتلا مكون من سبع خفافيش وسبع ضفادع وأفعى سامة، قدمه (عمار أقشار) لعبد القادر في شريحة بطيخ أحمر، مرض عبد القادر الذي ظن أن أمور الشرف والعار نُسيت وطُويت ثلاث أيام ثم رحل عن الدنيا! هكذا هو التعامل مع مسألة (الشرف والعار) في ريف هذه المرحلة، كما أن (علي أوراغ) سينتهي به الحال في السجن بعد أن سرق بنادق السلطان في فاس ثم الموت بعدها في نفس المكان.
وتستمر الرواية في السرد لتقف عند “لحم الثور البري” عنوان الرواية، وعنوان قصة ضيوف حضروا إلى مدشر (آيت عبد المؤمن إهروشن) وهم من (جبالة) شمال المغرب، فوجدوا في المسجد (عمار أقشار) يلهو مع الأطفال فاستضافهم وأكرمهم وأحسن ضيافتهم، ولكنهم قوم لايشبعون أكلوا كل شيء وطلبوا المزيد! فما كان من (عمار أقشار) ومن معه إلا أن يَذبح بغلة الضيوف التي ربطوها أمام المسجد عندما حضروا، فيأكلوا لحمها المشوي لعلهم يشبعون، وكذلك كان أكلوا لحم بغلتهم اللذيذ! لكن (أقشار) ومن معه قدموه على أساس أنه “لحم ثور بري”! وهي عبرة لكل جشع لايشبع، احذر أن تأكل لحم بغلة بدل لحم ثور بري!
ومن لحم الثور البري هذا يأخذنا السرد إلى (الهداوي) وهي صفة تطلق على أتباع (سيدي هدي) وليٌّ من الأولياء يوجد ضريحه بجبالة شمال المغرب، والغالب على هولاء الناس التدخين والقذارة وعدم الاغتسال وتصرفات أخرى غير أخلاقية! ومع ذلك ينتسبون لولي صالح! والحكاية تقول: أنّ هذا (الهداوي) مرّ بمداشر (أكزنانية) الكثيرة فطُرد منها شرّ طردة، فتاه (الهداوي) بين السُبل وانتهت به إلى جانب مقبرة مدشر من المداشر، فعاين عن كثب بعض الناس يدفنون صبيا صغيرا، وبعد فراغهم من الدّفن عادوا من حيث قدموا، ليبادر (الهداوي) بعد ذلك إلى نبش القبر! فأخرج الصّبي ومزقه وأخذ معه بعض الأطراف ورحل! يجر أسماله الرثة الممزقة القذرة، وعندما شعر السكان بواقعة النّبش هذه وانتشر الخبر في المدشر سريعا، تفرق الجميع في الأرض يبحثون عن الفاعل وساروا إلى أبعد حدود حتى بلغوا حدود قبيلة (آيث ورياغل) المتخمة لهم، فوجدوا هناك في إحدى الكهوف الفاعل (الهداوي) وهو مايزال منهمكا في التهام بعض الأطراف البشرية! فصدر فيه الحكم مباشرة علانية، فرجم بالحجارة حتى الموت في مكانه الذي وجدوه فيه، وعادوا أدراجهم بعد إتمام المهمة، إنها حكاية (الهداوي آكل لحم البشر)! الذي سقط في يد قوم لا يمزحون كثيرا!
وبعد هذا، يُعَنون الكاتب فصله الثامن (ببداية النزاعات) أي الهويات القاتلة بين العشائر والقبائل الريفية، والبداية كانت عندما اسْتنجدَت عشيرة زوجة الحاج (حميدو) القادمة من (أيث حدو نمحند) الورياغلية، بعشيرة (ايث عبد المؤمن) الجزنائية، بعد أن انهزمت الأولى في معركة ضد (آيث مازكة) الورياغلية، وكذلك كان، تجمع (آيث عبد المؤمن) ومعهم (آيث ثاثنوت) على مضض! لأنهم رفضوا في الأول لكن تبَعِيتُهم لآيث عبد المؤمن ألزمتهم بضرورة الدعم والمساندة، لكن الأقدار شاءت أن يذهبوا لنُصرة غيرهم فعادوا أعداء! بحيث قتل (عمار أقشار) رجلا من (آيت ثاثنوت) خطأً، وقُتل من (آيث عبد المؤمن) شخص أيضا عمداً ردّا على الدّم المهدور! خطأ، ليعدوا أدراجهم بحل نزاعهم أولا ثم بعد ذلك يفكروا في نصرة حلفائهم، عادوا وشكلوا مجلس القبيلة للتدول فيما جرى، واتفقوا على دفن الميتين وتسارعوا إلى الظفر بباب المسجد الذي يوظف في حمل الأموات!
تدول مجلس القرية فيما جرى ورأى الجَمْعُ أنه يتوجب الصلح بين الطرفين وعليه سيتجه “الجميع إلى مسجد الخطبة…. وهناك ستؤدون القسم عل ضريح الولي، وأنت (المعلم احميدو) عليك أن تدع أحد أبنائك يقترن بزوجة من (آيث ثاثنوت) ويجب على رجل من آيث (ثاثنوت) أن يقترن بأحد بناتك” وهنا تحضر مجددا المسألة الدينية وبركة الأولياء والزواج أيضا كمؤسسة ناجعة في إطفاء النيران بين القبائل والعشائر، وفض الخلافات، لكن رغم ذلك فالعناد الريفي شديد، والموقف يتطلب دفع “غرامة الدم و(ارحق) – وهذا نوع آخر من الغرامات يمكن تجسيده بثمن الغدر – أما نحن فسنؤدي غرامة الدم وحدها” هكذا تكلم (آيث مومن)، لم يتوصلوا إلى حل يرضي الجميع، مما يعني بداية حرب الهويات القاتلة وبروز شبح العشائرية والقبلية المقيتة بين هاتين العشيرتين (آيث عبد المؤمن) و(آيث ثاثنوت) اللتين يرجع أصلهما إلى جد واحد وهو (عبد المؤمن) الذي سكن هذه الأرض (وادي إهروشن) أول مرة.
انطلقت الحرب بينهما يوم (عرفة) وهو اليوم قبل عيد الأضحى، فَقُتل (الحاج حميدو) وابنه (عمار أقشار) وأصيب أيضا (ميمون) أخ (عمار أقشار) فاستبد (بميمون) الغضب وعالج نفسه بسرعة ولم يبالي بحرمة يوم عرفة لا بعيد الأضحى ولا شيء آخر إلا “الثأر أو الموت”! بقي يراقب بيتاً من بيوت أصهاره من (آيث ثاثنوت) حتى خرج مجموعة من الأشخاص فأسقط ثلاثة قتلى منهم، بقيت الجثث ملقاة هناك فلا أحد يجرؤ على الخروج من المنزل ولا الذهاب إلى المسجد لإحضار الباب لحمل الجثث، استمر الحال هكذا حتى ظهر حشد من الناس وهم في يهرولون في الوادي، هم جماعة (آيث ثاثنوت) ويجرون معهم ثورا سمينا متجهين نحو رجل من رجالات المدشر الموقرين اسمه (الحاج بقيش) بهدف “رمي العار” عند مسكنه المقابل للمسجد، فذبح الثور على عتبة المسجد وسال الدم “فتح (بقيش) الباب الموصودة من الداخل وتقدم إلى الخارج رافعا جلبابه ثم خطا فورق الذبيحة” تتطاير الكلام من جميع الناس، حاول أن يسأل رغم أن (الحاج بقيش) “كان يعرف بالضبط ما يعنيه ذبح ثور أمام المسجد” لقد حَضَرَ هؤلاء الناس لرمي العار لأن (آيث عبد مومن) انتهكوا “حُرمة العيد وهو أمر لم يحدث في الريف منذ عهد الوثنية، لقد جئنا إليك بموتانا نلتمس منك الشفاعة والمساعدة ونحرنا ثورا على باب مسجدك لقد رمينا العار عليك وأصبحت تحت إكراه كبير، لذا فأنت ملزم بمساعدتنا، سنقضي على آيث عبد المؤمن أو نطردهم خارج الريف”! وتعد عملية (رمي العار) بالريف وسيلة يلجأ إليها اليائس كحل أخير، ويلزم من رُمي عَليه العَار أن يَتصرف وإلا كان العار والخزي عليه هو نفسه! هكذا كان العرف بالريف، وبالفعل نفي (آيث عبد المؤمن) خارج الريف واستقروا (بالحاجب فاس) وفعل رمي العار فعله وأعطى ثماره.
رغم النّفي وتراخي السّنوات، إلا النّزعات القلبية والهويات القاتلة تجري مجري الدم في عروق الريفيين، إنها سيكولوجيا الإنسان الريفي العجيبة، بعد سنوات طويلة بالمنفى عمل فيها عشيرة (آيث عبد مؤمن) بجد واجتهاد وحسَّنوا وضعيتهم المعيشية بالحاجب وصاروا في عدد كبيرة من الرجال، وبالتالي يمكن أن يشربوا من كأس الثأر حد الارتواء شربة تنزل بردا وسلاما في جوف الظمآن!.
إذن وجب “الهجوم المباغت” تدبروا أمرهم وساروا ككتيبة جيش مشاة من (فاس) إلى قبيلة (أكزناية) بالريف للهجوم والثأر، وصلوا بالفعل ووجدوا في القبيلة من استقبلهم وساعدهم خفية، فانتظروا الفرصة المناسبة لشن الغارة، “وعلى العموم كان الهجوم ناجحا إذ بلغت الخسائر في صفوف المهاجمين ثلاثين فردا مقابل سبعين رجلا على الأقل في صفوف الأعداء”! بعد أن دامت الكر والفر بينهما أياما، نعم، هكذا يكون الحال عندما لا يموت الثأر في نفس الشخصية الريفية، فلا بأس أن تسقط الأرواح في سبيل وهم قاتل اسمه الثأر.
وإلى هنا ينتهي الباب الأول من الرواية، وقد جسد من خلال الأحداث التي حملها سيكولوحيا الإنسان الريفي في فترة من فترات تاريخه القديم والحديث، وبيّن كيف أن طغيان العرف في حياة الريفي مستحوذ ومسيطر على تصرفاته وانفعالاته، وكذلك الوقوف على حضور الجانب الدّيني كوصفة مختلطة ممزوجة مكونة من: العقيدة والعبادة والخرافة ويجمع من خلالها بين تناقضات صارخة، فهو يمتنع عن أكل الخزير لحرمته، لكنه قد يقتل الإنسان لسبب بسيط يفرضه العرف! هذه السيكولوجيا العجيبة للإنسان الريفي في تلك الفترة التي حكمها العرف وثنائية الشرف والعار.
بقلم: بلال بوزيان
0 تعليق