يرجع الأمر إلى إبرام معاهدة الصلح بين المسلمين من أهل بادس تحت راية أميرها منصور بن يوسف، وبين النصارى من أهل البندقية تحت راية القبطان لويز بزمان البندقيّ بتاريخ يوم 19 رمضان 913هـ/ موافق 2 يناير 1508. وقد اشتملت المعاهدة على تسعة بنود. كُتبتْ بخط يد محمد بن أحمد الرزيني. وهذا نص ما كتبه المؤرخ الزركلي بتاريخ: شوال 1388هـ/ موافق 1969م.
المكان، الزمان، السّند، الإمارة
مكان الإمارة: هو بلدة “بادس”، وقد عنّاني طول البحث عنها منذ أواخر سنة 1955م أيام ظفرت بنص معاهدة بين البندقية وبادس موقع بإمضاء أميرها.
واقتربت من بادس في رحلة كنت بها مع الملك محمد الخامس ملك المغرب السابق عليه رحمات الله وبلغنا “الحسيمة” في ريف المغرب الأقصى، ولم أكن أدري أن بادس التي أبحث عنها كانت على مقربة من الحسيمة، وعدت من تلك الرحلة ولم يتح لي أن أراها أو أرى موضعها.
وجاءني من أعلمني بعد ذلك أن على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، بين مدينة سبتة ومليلة جزيرة صغيرة اتصلت مؤخرًا بالبر المغربي فأصبحت شبه جزيرة، وأنها كانت تسمى حجرة بادس أو حجر بادس أو حصن بادس لقربها من بلدة بادس المغربية، التي هي موضوع بحثي.
وقرأت في كتاب: “المغرب” أن بادس مدينة تاريخية من المدن المؤسسة في القرن الأول للفتح الإسلامي لعبت دورًا خطيرًا في تاريخ المغرب، وقد اندثرت الآن ولم يبق منها شيء غير الاسم، قال: وموقعها على ساحل البحر الأبيض المتوسط، أمام الجزيرة المعروفة بنفس الاسم، وفي الطريق بين سبتة ومليلة.
وفي “تاريخ تطوان”: بادس، جزيرة أو شبه جزيرة على البحر الأبيض المتوسط، هي الآن في يد الإسبان. وفي الدليل الأزرق للمغرب ما ترجمته: على الشاطئ المغربي بين مدينتي سبتة ومليلة (الإسبانيتين) أمام قرية القُميرة المسمى بالإسبانية بنيون دوفيليز.تقع بلدة بادس وهي قرية صغيرة على نهر يدعى باسمها، كان الرومان يسمونها باريانتينا وكان لمينائها شأن في القرون الوسطى في مواصلات فاس الخارجية، وأهل الميناء بعد استقرار الإسبان في القميرة.هـ
وتكرر ورود ذكرها في تاريخ المغرب القديم: أمر عبد المؤمن سنة 557هـ بإنشاء الأساطيل، فكان منها بطنجة وسبتة وبادس ومراسي الريف مائة قطعة. وفي سنة 601هـ بنى عامل الريف، من قبل الناصر، واسمه يعيش سورَ بادس ولمديه ومليلية حياطة وتحصينًا من فجأة العدو. وأمر السلطان يعقوب ببناء السور على بادس مرفأ السفن ومحل العبور من بلاد غمارة سنة 674هـ. وفي سنة 687هـ قدم من بادس وسلا وأنفى خمسة عشر أسطولا انضمت إلى بقية الأسطول في مرفأ سبتة. وفي سنة 760هـ، ظهر السلطان أبو سالم بجبال غمارة وفر منصور بن سليمان إلى بادس، فقبض عليه، وجيء به إلى السلطان أبي سالم فقتله. وبادس (في القرن السادس للهجرة) مدينة متحضرة، فيها أسواق وصناعات قلائل، وغمارة يلجأون إليها في حوائجهم. وهي آخر بلاد غمارة.
وأخرجت علماء، منهم: عبد الحق بن إسماعيل البادسي، مصنف “المقصد الشريف في صلحاء الريف” رأيت مخطوطة منه في خزانة الرباط (المجموع 1419د) فرغ من تأليفه سنة 711هـ.|
الزمان: زمن البحث في الإمارة المجهولة هو القرن العاشر للهجرة، والخامس عشر إلى أوائل السادس عشر للميلاد.
السَّنَد: وسند البحث: معاهدة عُقدت يوم 19 رمضان 913هـ الموافق 21 يناير 1580 بين الأمير منصور بن يوسف والقبطان لويز بزمان البندقي، في بلدة بادس. وكان قد اتفق لي الاطلاع على الأصل الفريد لهذه المعاهدة، بينما كنت أقلب أضابير “الأركيفيو” الأربع عشر، في البندقية، وما فيها من رسائل ووثائق واردة عليها من بعض ملوك المغرب وسلاطين مصر، والدولة العثمانية.
نص المعاهدة [ورد فيها بعض الأخطاء تركناها كما هي]
الحمد لله وحده، هذه نص معاقدة وشروط عقدها القبطان الكبير في قومه، العزيز بين أبناء جنسه، الحسيب الأصيل لويز بزمان هداه الله، بينه وبين الأمير المعظم الأسعد الأنجد أبي علي منصور بن يوسف كان الله له، وأصلح قوله وعمله، وكانت المعاقدة بينهم في حين وصول القبطان إلى مرسى مدينة بادس أمنها الله.
الإمارة: ليس فيما وقفت عليه من تواريخ المغرب أي ذكر لإمارة في بادس، تولاها أو قام بها أمير يدعى منصور بن يوسف، ولعله كان مستقلا غير تابع لإحدى دولتي عصره: الوطاسية المرينية، ودولة بني الأحمر، وإلا لما فاته أن يشير في بدء المعاقدة، أو ختامها إلى الدولة التي هو من عمالها. ويلاحظ في السطر الرابع من الصفحة الأولى من نص المعاقدة فراغ كان قد تركه الكاتب لاسم الأمير منصور، وملأه هو بخطه على طريقة سلاطين المغرب في تحلية رسائلهم بتوقيعاتهم في أعلى الرسائل، وانفرد هذا بإدخال اسمه في صلب الفقرة الأولى من المعاقدة.
ثم، هل هناك أكثر من التشابه في الأسماء، عندما نجد في تاريخ المغرب كبيرًا من الوطاسيين اسمه: يوسف بن منصور (بن زيان الوطاسي)، قد تولى خلع سلطان فاسأبي عبد الله الحفيد سنة 875هـ/ 1470م؟ أم يذهب بنا الحدس إلى أن منصور بن يوسف صاحب معاقدة بادس، سنة 913هـ /1508م، هو ابن ليوسف بن منصور بن زيان؟ فتكون الإمارة “وطاسية” يُلحق ما يمكن أن يُعرف عنها بتاريخ الوطاسيين. هذا خاطر يسنح عند محاولة التعرف على إلى نسب منصور وأوّليّته، لا يدخل في صميم موضوع “الإمارة”.
أما مدة التاريخ لبلدة بادس، بعد زمن المعاقدة، فمتوفرة، وأهم ما يتعلق ببحثنا منها، أن الإسبان احتلوا جزيرة بادس في 23 يوليو 1508م 23 صفر 914هـ أي بعد زهاء سبعة أشهر من توقيع المعاقدة، وأورد صديقنا محمد بن تاويت التطواني نصوصًا مفيدة لأحداث وقعت في بادس وما حولها في بعض أعوام 1522 – 1564م (922 – 971هـ) لم أجد فيما ما يسعفني في كشف حقيقة “الإمارة المجهولة” التي يمكن أن يكون اسمها منذ الآن في تاريخ بادس “إمارة منصور بن يوسف“، إلى أن يظهر عنها من نشوئها ومدتها، وعلاقاتها بجاراتها، ما لا يزال فيما أحسب في عالم الغيب. كتبه: خير الدين الزركلي – نزيل بيروت
0 تعليق