من التراث الحديثي المخطوط في القرن الثامن الهجري
كتاب: “الممهد الكبير الجامع” لابن الزهراء الورياغلي (حيا 710هـ) (*)
أعدَّ ورقة المُشاركة الدكتور يونس بقيان
باحث في التراث الإسلامي – طنجة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد؛ يقول العلامة محمد العربي الفاسي في كتابه: “مرآة المحاسن” “كم مرّ في المَغرب مِن فاضلٍ نبيهٍ، طوى ذكرَه عَدمُ التَّنبيهِ، فصارَ اسمُه مهجورًا كأن لم يَكُن شيئًا مَذكورًا”، انتهى كلامه رحمه الله.
قلت: وممن طوى الزمانُ ذكرَهم وَأغفلتهم كتب التَّراجم، العلامة المُحدِّث أبو علي عمر بن علي ابن الزَّهراء الورياغلي صاحب كتاب: “الممهَّد الكبير الجامع لمعاني السُّنن والأحكام وما تضَمَّنه موطأ مالك من الفِقْه والآثار وذكر الرُّواة البَرَرة الأخيار وكلُّ ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار”، والذي يعدُّ من أكبر المَوسوعات في تاريخ المَغرب الحافل بالإنجازات العلمية؛ إذ يقع بخطّ مصنِّفه في واحد وخمسين مجلدًا.
وإنه لمن دواعي السرور والاغتباط أن تتاح لي الفرصة لأعرف بعالم ينتمي جغرافيًا لمنطقة الريف، سِيَما وأنَّ هذه العناية بَدَرَتْ عَن المجلس العلمي لفَحص أنجرة المنظمة تحت شعار: “جهود علماء الشمال في خدمة السنة النبوية”.
وقد عنونتُ ورَقتي بـعنوان: “من التراث الحديثي المخطوط في القرن الثامن الهجري، كتاب: الممهد الكبير الجامع لابن الزهراء الورياغلي”، وقسمتها إلى عنصرين:
الأول: التعريف بابن الزهراء الورياغلي
الثاني: التعريف بالممهد الكبير
أهداف الورقة
- إبراز شخصية عالم مغربيٍّ ينتمي جغرافيا لمنطقة الشمال.
- التعريف بموسوعة ضخمة في فقه الحَديث، وهو كتاب: “الممهد الكبير”، الذي اشتمل على 51 سِفْرًا مخطوطًا، وقد احتوت جميعها على ثلاثة وثلاثين ألف حديث ومئتين وثلاثة وعشرين حديثًا.
- إبراز قيمة الكتاب العلمية، فهو يُعتبر من أكبر شروح الموطإ التي وصلتنا في فقه الحَديث دراية، بالإضافة إلى تناوله علم الرِّواية.
- إذا اعتبرنا هذا الكتاب تراثًا علميًا فهو يشكّل قيمة وطنية ويُـتشرف بكونه وليد المغرب.
التعريف بابن الزهراء الرياغلي
اسمه ونسبه:
ذكر ابن الزَّهراء اسمه في مقدمة كلِّ كتُبه؛ فتارة يذكرُه مُختصرًا، وتارة يذكره كاملاً كما ورد على الصَّفحة الأخيرة من السِّفر الرّابع والعشرين من الممهد الكبير، فهو: “عُمر بن علي بن يوسُف بن محمد بن الهادي العُثماني من بني عمران بن حسين بن هلال بن مَنصور بن عثمان بن سعد بن ورياغل بن مكلا”.
كنيته ولقبه: يكنى بأبي علي؛ ويكنى أيضًا بأبي حَفص. واشتُهر بلقب ابن الزَّهراء.
نِسْبَتُهُ، وأسْرَتُهُ: يذكر ابن الزَّهراء ثلاث نِسَبٍ في سلسلة نسبه وهي: (العثمانيُّ – العمرانيُّ – الورياغليُّ).
فالأولى: (العُثمانيُّ) وهي نسبة إلى سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه، كما ذكر المَرحوم سعيد أعراب، وذكر أيضًا “أنه يُنسب لمدشر يُعرف بالعُثمانيّين (إعثمانن) في قبيلة بني ورياغل إلى اليَوم”.
والثانية: (العِمْرانيُّ) نسبة إلى بني عمران أحد أبناء عمر بن إدريس، وقد استقرت فرقة منهم في بني ورياغل، ومنهم ابن الزَّهراء كما نصَّ عليها في نِسبَته.
والثالثة: (الورياغليُّ) نسبة لقبيلة بني وَرياغل.
مكانة ابن الزَّهراء العلمية: عاش ابن الزَّهراء – رحمه الله – في بيئة علمية مكّنته من ارتقاء مراتب العلم والمعرفة، فبرع في علوم شتّى من الحَديث، والفقه، واللّغة، وعلم السِّير، والتَّاريخ، وغير ذلك من الفُنون، وخاصَّة في فقه الحَديث؛ وكُتبه شاهدة على تفوُّقه وعلوُّ كعبه؛ لذا اعتبره الفقيه محمد المنوني هو الرّابع من المُؤلفين المَغاربة في فقه الحَديث والخلاف العالي في العَصر المريني الأوَّل.
وعدّه محمد إبراهيم الكتاني من الفُقهاء المَوسوعيين، الذين خدموا ضمن المَذهب المالكي مذاهب الصَّحابة والتّابعين وأئمَّة الأمصار؛ لم يمنعه انتصاره للمذهب المالكي من الانفتاح على المَذاهب الأخرى. وذكر أنَّه تأثَّـر بمدرسة الاجتهاد في الأندلس.
قلت: بالاطلاع على مُؤلفات ابن الزَّهراء التي عُرِفت له – إلى الآن – تُعرف مكانته وتضلُّعه في مُختلف الفُنون من اللّغة والأدَب، والتّاريخ، والسير والتراجم، والحَديث والأصول والفِقه ومَذاهبه.
مؤلفاته: تعرف لهُ خمسة كتب:
- أنوار أولي الألباب في اختصار الاستيعاب.
- رسالة في الصَّحابة في الشُّهداء.
- البِدع وأمارات خراب العالم بذهاب أهل الفَضل والدّين([1]).
- ترتيب المَسالك لرُواة مُوطإ مالك([2]).
- المُمهَّد الكبير الجامع لمعاني السُّنن والأحكام، وما تضَمَّنه موطأ مالك من الفِقْه والآثار، وذكر الرُّواة البررة الأخيار، وكلُّ ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار.
وهذا ينقلنا إلى العنصر الثاني من هذه الورقة وهو:
التعريف بكتاب “الممهد الكبير”
عنوان الكتاب: وضعَ ابنُ الزَّهراء لكتابه عنوانًا طويلاً؛ ليوضح موضوعاته والهدف من تأليفه، بدقَّة متناهية في اختيار كلماته، فكان هذا العنوان هو: “المُمهَّد الكبير الجامع لمعاني السُّنن والأحكام، وما تضَمَّنه موطأ مالك من الفِقْه والآثار، وذكر الرُّواة البررة الأخيار، وكلُّ ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار”. ويُختصر باسم: “المُمهَّد الكبير الجامع” ، “المُمهَّد الكبير”، و”المُمهَّد الجامع”.
تأليف الشَّرح زمانًا وأسبابًا: صنف ابن الزَّهراء هذه الموسوعة في العقد الأوّل من القرن الثّامن الهجري؛ واستغرق في تصنيفه خمسَ سنين وسبعة أشهر، فكان الانتهاء منه يوم الأحد الثّامن والعشرين من المُحرَّم عام عشرة وسبعمئة.
أما أسباب التصنيف: قد تتعدَّدت أسبابه التي دفعته للقيام بتصنيف هذه الموسوعة الفقهية الحَديثية، لكن الهَدف واحد تحدَّث عنه في مُقدمة السِّفر الأوَّل؛ قال: “… فألهمني الذي له الخلق والأمر، وقوّى عزمي على أن أجمعَ كتابًا مُمهدًا واعيًا على أبواب “المُوطَّأ” من الصَّحابة والتّابعين، وأصِلَ بذلك ما في “المُوطَّأ” من حديث النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مسنده ومتصله، وبلاغه ومنقطعه، إذ كل ذلك عند مالك – رحمه الله –. انتهى كلامه رحمه الله. وقد تنوعت مصادره في هذا الكتاب بين كتب الفقه، والحديث، واللغة، والتفسير. ذكرتها مفصلة في كتابي: “المدخل إلى كتاب الممهد الكبير”.
القيمة العلمية لـكتاب: “الممهد الكبير”: يعتبر هذا الكتاب من أوسع المُصنَّفات في فقه الحَديث؛ وهو امتداد للعمل المغربي والأندلسي في العناية بالمُوطَّإ.
ولهذا قال الفقيه محمد المنوني: “خَلّف – ابن الزَّهراء – شرحًا بسيطًا على المُوطَّأ من أحد وخمسين سفرًا، وكلُّ سِفر يتألَّف من عدة أجزاء، حيث صار مجموع أجزاء الكتاب مئتين وستة وتسعين جزءًا”.
واعتبره الدكتور خالد الصمدي “خاتمة شروح المُوطَّأ وأوسعها”.
وجعله الشّيخ بشير ضيف “المَصدر الثّامن عشر من الأمَّهات الكبرى لمصادر الفِقْه المالكي”.
وتظهر تجليات هذه القيمة العلمية – إجمالاً([3]) – فيما يلي:
أولاً: اشتماله على كمٍّ هائل من النُّصوص الحَديثية، فقد بلغت عدد أحاديثه ثلاثةً وثلاثين ألف حديث ونيّف، بالإضافة إلى اشتماله على أقوال الصَّحابة والتابعين وأتباعهم. وبلغت عدد المسائل التي حكي فيها الإجماع 6 آلاف مسألة. وأما الفروع الفقهية فيه فلا تعد ولا تحصى.
1: التَزَمَ بشرح كلِّ ما في المُوطَّأ من الأحاديث كانت متصلة، أو منقطعة، أو بلاغات. وهي نقطة تقاطع يشترك فيها التمهيد والاستذكار معًا، مع الممهد الكبير بتعبير الأستاذ الدكتور عبد الله بوغوته. وهو وصفٌ دقيق وتحليل عميق للكتب الثلاثة؛ لأن ابن عبد البر رحمه الله ركز في التمهيد على الصناعة الحديثية، وفي الاستذكار على الصناعة الفقهية غالباً. وابن الزهراء جمع بين الصناعتين في كتابه “الممهد الكبير”. ويعتمدُ في الأولى على الباجي والقاضي عياض، وفي الثانية على ابن عبد البَـرِّ غالبًا.
2: تَرْجَم فيه لكلِّ رواة المُوطَّأ؛ ممّا جعله كتابًا جامعًا لما في المُوطَّأ، من حديث وفقه، ورجال، وغير ذلك.
3: شرحه للغريب، وتناوله للنُّـكت اللغوية، والاستشهاد بالأشعار، ويهتم بالمقارنات الأدبية.
4: جعله كتابًا مختصرًا بالنِّسبة لأصوله، ولا يأتي فيه بالمكرر إلا نادرًا؛ ولذلك تجد عبارة: و”قد تقدم ذكره”؛ و”سيأتي القَوْلُ … في مَوضعه” حاضرةً في كتابه.
وميزَة هذا الشَّرح أنه بَسيط ومُختصر في آن واحد، فهو بسيط في شكله وحَجمه، مُختصَرٌ في مَضمونه ومُحتواه؛ إذ يتناول الفِقْهَ أصولاً وفروعًا، والحَديث دراية ورواية، والتّفسير، واللغة، والأدب، والتّاريخ… فلو أطلق المؤلف العَنان لقلمه السيّال لكانتِ النَّتيجة أضعافًا مضاعفة من الأجزاء.
نماذج من الصِّناعة الحديثية في كتابه
أولاً: الرِّواية المَعْنِية بالشَّرح.
أما الرِّواية التي شرحها ابن الزَّهراء، فهي رواية يحيى بن يحيى الليثي (ت243هـ)؛ فعَلَيْها إقبال المغاربة؛ لأنَّها انفردت عن باقي روايات المُوطَّإ بمميزات كثيرة لعل أهمها([4]): شهرتُها، وكونها آخر ما قُرئ على الإمام مالك، واشتمال رواية يحيى عن كثير من المَسائل الفرعية.
التَّنبيه على الاختلاف بينها وبين الروايات الأخرى سندًا ومتنًا:
وأما التنبيه على اختلاف الروايات وتوجيهها؛ فمن ذلك قوله في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر([5]): “أنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَأْتي قُباءَ راكِبًا وَماشِيًا”. قال ابن الزَّهراء نقلاً عن ابن عبد البَـرّ: “اختلاف رواة “المُوطَّأ” في إسناد هذا الحَديث، واختلاف أصحاب نافعٍ في ألفاظه أيضًا. ورواية أيّوب (السَّخْتِيَانِي) فيه عن نافع، عن ابن عمر: “أنّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قُباء”، ولم يذكر مالك ولا عُـبَـيْد الله “مَسجدًا”، وجوَّد حمّاد بن زيد هذا الحَديث، فرواه عن أيوب عن نافع، قال: “كان عبد الله يأتي مَسجد قُباء في كلِّ سبتٍ إذا صَلّى الغداة، وكان يكره أن يخرج منه حتى يُصَلّي”. قال ابن الزَّهراء موضحًا: “ورواية أيّوب هذه تُـفَسِّر إتيان رَسول الله صلى الله عليه وسلم قُباء أنَّه كان يأتي للصَّلاة في مَسجدها”. ثم عقَّب ابنُ الزَّهراء على ما ذكره ابن عبد البَـرّ بإيراده حديثًا في سنده لينٌ بقوله: “وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ قصد مَسجد قُباء وَالصَّلاة فيه تَعدل عمرة بإسناد فيه لينٌ من حديث أهل المَدينَة، قد ذكره أبو عمر في التّمهيد”.
ومنه ما رواه مالك (في التصفيق عند الحاجة في الصلاة)، عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي؛ من حديث طويل وفيه: “إنّما التَّصْفيقُ للنِّساءِ”([6]) (وهي رواية ابن القاسم، وسويد، وأبي مصعب).
قال ابن الزَّهراء: ويُروى “التَّصفيح”؛ ثمَّ ذكر الشرح اللغوي للكلمتيْن فقال: “التَّصفيح”: هو التَّصفيق، وصفته الضَّرب بأصبعين من اليَد اليُمنى في باطن الكفِّ اليُسرى. و”التَّصفيق”: الضَّرب بباطن إحداهما على باطن الأخرى. ثمَّ ختم بقوله: “التَّصفيح بأصبعين للإنذار والتَّنبيه؛ والتَّصفيق: بالجميع للهو واللعب”.
ومنه: اختلاف رواة المُوطَّأ في حديث([7]): مالك، عن نافِع، عن ابن عُمر؛ أن رَسول الله صلى الله عليه وسلم “كان يُصَلّي قَبْلَ الظّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَها رَكْعَتَيْن، وَبَعْدَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ في بَيْتِهِ، وَبَعْدَ صَلاةِ العِشاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكان لا يُصَلّي بَعْدَ الجُـمُعَةِ حَتّى يَنْصَرِفَ فَيَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ”.
قال ابن الزَّهراء: هكذا رواية يحيى بن يحيى، عن مالك، لم يذكر “في بَيته” إلا الرَّكعتين بَعد المَغرب فَقَطْ، وتابعه القَعنيُّ على ذلك.
وزاد ابن بُكَيْر في هذا الحَديث: “في بَيْتِهِ” في مَوضعين: أحدُهما: في الرَّكعتين بعد المَغرب؛ والآخر: في الرَّكعتين بعد العشاء “في بيته”، ولم يذكُر “انصرافه في الجُمعة”. وقد تابعه أيضًا جماعة من رواة “المُوطَّأ”، وقد اختَلف في ألفاظ هذا الحَديث أصحابُ نافع. ثمَّ أحال على “التمهيد” لمن أراد الوقوف على الرِّوايات بطولها.
ثانيا: النقد الحديثي عند ابن الزهراء الورياغلي:
يعرِّف العلماء النقد الحديثي بـقولهم: «تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة والحكم على الرواة توثيقًا وتَجْريحًا”([8]).
اختار ابن الزهراء في النقد الحديثي معايير المحدثين، وهي: (اتصال السند، عدالة الرواة، وضبطهم، عدم الشّذوذ، عدم العلة القادحة)، لأنهم أشدّ دقة وضبطًا من الفقهاء الذين يزنونه بـ(التكليف، الإسلام، العدالة، الضبط، موافقة الحديث للحس أو العقل، وألا يخالف نصًّا مقطوعا به).
فالحديث المقبول عند المحدثين يقوم على معيارين، وهما: الضّبطُ، والعَدالة؛ إذ بالأولى يؤمَن الخَطأ، وبالثّانية يُؤمَن الكَذِب.
1– من معايير الضبط عند ابن الزهراء؛ الاستناد إلى الصَّحيح لتَوثيق الرّاوي
فبم يُعْرف الضبط؟ قال ابن الصلاح في “المقدمة”([9]): “يعرف كون الراوي ضابطًا بأن نعتبر رواياتِه بروايات الثقات المعروفين بالضّبط والإتقان”. زاد الذهبي([10]): “تخريج حديثه في الصحيحين”.
وقد سار ابن الزهراء الورياغلي في كتابه على هذا المَنْهَج (الاستناد إلى الصَّحيح لتَوثيق الرّاوي)، فقد ذكر في ترجمة عامر بن عبد الله بن الزُّبير (من شيوخ مالك روى عنه أربعة أحاديث)؛ فقال: أخرج له البخاري وهو ثقة. وذكر أيضًا في ترجمة يحيى بن سعيد بن قيس بن النَّجار الأنصاري. فقال: أخرج له البخاري.
2– الشواهد والمتابَعات لتقوية الرِّواية
فقد ورد في حديث مالك بن أنس، عن أبي حازم بن دينار، عن سَهل بن سَعد السّاعدي، أنه قال: “كان النّاسُ يُؤمَرونَ أنْ يَضَعَ الرَّجُلُ اليَدَ اليُمْنى عَلى ذِراعِهِ اليُسْرى في الصَّلاة. قال أبو حازم: لا أعْلَمُ إلا أنّهُ يَنْمي ذلِكَ”. قال ابن الزَّهراء([11]): “هكذا في رواية يحيى بن يحيى. وأخرجه البخاري([12]) من رواية عبد الله بن يوسف، عن مالك: “لا أعلمه إلا أنَّه يُنْمي ذلك إلى النّبي صلى الله عليه وسلم”، قال إسماعيل: “يُنْمى”، ولم يقل: “يُنَمّي”.
قال ابن وضاح: أي: يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
3– وصل حديث مرسل استنادًا إلى البخاري
في سياق شَرْحه حديث مالك، عَن ابن شِهاب، أنّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم “كانَ يُصَلّي يَوْمَ الفِطْرِ وَيَوْمَ الأضْحى قَبْلَ الخُطْبَةِ”. قال ابن الزَّهراء([13]): “أما حَديث ابن شِهاب المُرسل فيتصل معناه ويستند من وجوه”، ثمَّ أتى بعدَّة أحاديث، وذكر منها حديث البخاري([14]) الذي رواه وكيع، عن سُفيان، عن ابن جُرَيج، عن الحَسن بن مُسلم، عن طاوس، عن ابن عبّاس، قال: “شَهدتُ العيدَ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بَكر، وَعُمر فبدأوا بالصَّلاة قَبل الخُطْبة”.
ثالثًا: استدراكات ابن الزَّهراء على يحيى بن يحيى اللَّيثي
1– استدراكه عليه في حديث لم يُثبته في روايته.
تفطّن ابن الزَّهراء – وهو الفقيه المطلع – لمذهب يحيى الليثي بأنَّه لا يقول بالقنوت في صلاة الفجر، فاستدرك عليه بقوله: لم يذكر يحيى في روايته غير حديث: مالك، عن نافع: “أن عبد الله بن عُمر كان لا يَقْنُتُ في شَيْءٍ مِنَ الصَّلاةِ”، وفي أكثر “المُوطَّآت”([15]) بعد حديث ابن عمر هذا: “مالك، عن هشام بن عُروة: أنَّ أباهُ … كان يَقْنُتُ في صَلاة الفَجْرِ قَبْلَ أنْ يَرْكَعَ الرّكْعَةَ الآخِرَةَ..”.
2– تنبيه على خطإ في سَند الحديث.
ففي حديث: مالك، عن ابن شِهاب، عن مَحمود بن لَبيدٍ “أنّ عتبان بن مالك كان يَؤُمّ قَوْمَه وَهُو أعْمى…” الحَديثَ.
قال ابن الزَّهراء نقلاً عن ابن عبد البَـرّ([16]): “هكذا قال يحيى، عن مالك، عن ابن شِهاب، عن محمود بن لبيد، وهو من الغَلط والوَهم الشَّديد ولم يُتابعه أحَدٌ من رواة “المُوطَّأ” ولا غيرِهم على ذلك، وهو حديث محمود بن الربيع، لا محمود بن لبيد.
رابعًا: اهتمامه بضبط الأسماء:
من المعلوم أنَّ العناية بتقييد المُهمل، وتوضيح المُبهم وتمييز المُشكل من الأهمية بمكان في علم الحديث تحديدًا؛ لذا نَجِدُ ابن الزَّهراء لا يغفل عن ضبط الأسماء والكنى، والأماكن؛ وفيما يلي أمثلة لبيان منهجه في ضبط الأسماء:
فمن ذلك قوله في ضبط: مليكة جدة أنس رضي الله عنه. قال ابن الزَّهراء: وهي “مُلَيكة” بضم الميم وفتح اللام. وحكى ابن عَتّاب، عن الأصيلي: أنها مَليكة بفتح الميم وكسر اللام.
ومنها: في ترجمة عبد الله بن مسعود، قال ابن الزَّهراء: “هو عبد الله بن مَسعود بن غافل – بالغين المنقوطة والفاء -”.
ومنها قوله في حديث: “دونَكُم يا بني أرْفَدَة”، قال ابن الزَّهراء: “أرْفَدَة” بفتح الفاء، وقيل: بكسر الفاء.
ومنها: قوله في حديث: “ما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث”، قال ابن الزَّهراء: “بُعاث” ضبطناه بالعين المُهملة وهو أكثر اللّغويين؛ وأبو عُبَيْد يقول: “بُغاث”، بالغين المُعجمة.
قوله في حديث: “… كأنها أذناب خَيْل شَمس…”، قال ابن الزَّهراء: “الشّمس بسكون الميم وضمّها معًا من الدّواب كلّ ما لا يسْتقرّ إذا نُخِسَ، واحدُها شُمُوسٌ وشَمْسٌ”.
أخيرًا: يمكن القول في ختام هذه الكلمة بأن هذا الكتاب حُبِّس على خزانة جامع القرويين بفاس بُعَيْد تأليفه. وكان الذي حبسه الأديب محمد ابن أبي القاسم بن أبي مدين العثماني سنة 766هـ . وأغلبه إن لم يكن كله موجود في دَشْتِ القرويين بفاس بخط المؤلف، لأنّ ما وجد منه في الخزانات الأخرى …. كله منسوخ عن أصل المؤلف.
أرجو أن أكون قد كشفت اللثام عن كتاب في فقه الحديث لعالم من علماء الريف في القرن الثامن الهجري.
فأشكر الحضور الكريم كل باسمه ولقبه، والقائمين على هذه الندوة، وأشكر أستاذي الدكتور عبد السلام فيغو أسأل الله أن يوفقه في إتمام مشروعه العلمي، وأبارك للأستاذ الدكتور أحمد الوجدي منصبَه لرئاسه المجلس العلمي، فالله أسأل أن يوفقه لما يحبه ويرضاه. والسلام عليكم.
(*) كلمة الدكتور يونس بقيان التي ألقاها في الندوة الجهوية التي نظمتها المجالس العلمية المحلية لجهة طنجة تطوان الحسيمة (جهود علماء الشمال في خدمة السنة النبوية) يوم 3 ربيع الثاني 1440هـ/ موافق 11 دجنبر 2018.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) ذكره العلامة العابد الفاسي ضمن مخطوطات القرويين ولم أقف عليه.
([2]) منه نسخة خطية في مكتبة ابن يوسف بمراكش.
([3]) ينظر تفصيل ذلك في كتابي: المدخل إلى كتاب الممهد الكبير (ص94 وما بعدها).
([4]) مقتبس من كتاب: رواية يحيى بن يحيى الليثي بين المخطوط والمطبوع (ص57) بحث مرقون. باختصار.
([5]) ينظر: (ق176) من السفر السابع.
([6]) ينظر: (ق156) من السفر السابع.
([7]) ينظر: (ق172) من السفر السابع.
([8]) منهج النقد عند المحدثين، د. مصطفى الأعظمي (ص5).
([11]) السفر السابع من الممهد الكبير (ق 118).
([12]) في صحيحه كتاب: الأذان، باب: وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، برقم: 740.
([13]) السفر السابع من الممهد الكبير (ق 279).
([14]) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: اللباس، باب: الخاتم للنساء، برقم: 5880.
0 تعليق