فإن الناظر في المخطوطات العربية يجد من صنوف وأنواع الفوائد الشيء الكثير، غير ما هو الأصل فيها=النص، وهو ما يصطلح عليه في عُرف التحقيق بـ (خوارج النص)…
ومن أنواع الفوائد تلك: تقاييد التملكات..
إذ تصف لنا حركة علمية اقتصادية من جانب آخر، فيحمل لنا بعضها ملابسات البيع والشراء، وأعرافه عبر التاريخ، ورحلات المخطوط، وفرح بعض المتملكين بمشترياتهم من النسخ والأصول الخطية…
ويلحظ الواقف عليها التنوع في العبارة، والاختلاف في التعبير عن كل ذلك…
وقبل الشروع في الكلام على تلك التقاييد… أرى لزاما التنبيه على خطأ يقع فيه البعض، يخص مكان تقييدها… وهو الوجه الأول من المخطوط (صفحة العنوان) أو ما يسمى (الظهرية) -غالبا!!- أو الثاني مما يليه، وقد تكون بآخره وقد تسمى كذلك (ظهرية)….
ويستعملون مصطلح الطرة للدلالة عليه، فيجعلون الطرة بخلاف الهامش والحاشية معنى وحالا، وهو استعمال مخالف لاصطلاح أهل الفن؛ إذ الطرة والهامش والحاشية بمعنى واحد عندهم…
يقول الحافظ العراقي في “ألفيته”:
وَيَكْتُبُ اسْمَ الشَّيْخِ بَعْدَ الْبَسْمَلَهْ … وَالسَّامِعِينَ قَبْلَهَا مُكَمَّلَهْ
مُؤَرَّخًا أَوْ جَنْبَهَا بِالطُّرَّهْ … أَوْ آخِرَ الْجُزْءِ وَإِلَّا ظَهْرَهْ
قال العيني في “شرحه على الألفية” ص 242:
” (مُؤَرِّخاً) أي: ويكتب تاريخ وقت السماع، (أَوْ) إن أحب كتب ذلك (جَنْبَهَا بِالطُّرَّهْ) في أول ورقة من الكتاب، (أو) إن أحب كتبه (آخِرَ الْجُزْءِ، وَإِلاَّ ظَهْرَهْ) أي: وإن أحب في ظهر الكتاب، وحيث لا يخفى موضعه”.هـ
وقال الحافظ السخاوي في “فتح المغيث” 94/3:
” (جَنْبَهَا) أي: البسملة في الورقة الأولى (بِالطُّرَّهْ) يعني الحاشية المتسعة لذلك، حسبما أشار إلى حكايته الخطيب عن فعل شيوخه، وكذا فعله السلفي، بل ربما يكتب السلفي السماع بالحاشية ولو لم يكن معه غيره، أو يكتب الطالب التسميع (آخِرَ الْجُزْءِ) أو الكتاب (وإلا) أي: وإن لم يكتبه فيما تقدم فيكتبه (ظَهْرَهْ) أي: في ظهره، وربما فعل السلفي وغيره نحوه حيث يكتبون التسميع فيما يكون للمسموع كالوقاية، أو يكتبه حيث لا يخفى موضعه منه من حاشية في الأثناء ونحو ذلك”.هـ
وفي”فتح الباقي بشرح ألفية العراقي” لزكريا الأنصاري 64/2:
” (بالطُّرَّهْ) أي: في الحاشية المتسعة”.هـ
ومن هذه النصوص يظهر جليا ما يقصد بالطرة في اصطلاح أهل الشأن، إذ فسىروها بالحاشية…
أما قيد التملك في اصطلاح أهل الفن فهو: عبارة تأتي في أول المخطوط أو آخره، لتفيد تملك شخص ما هذا المخطوط… كما قال محمد شريف زكريا فيما نقله عنه حاج قويدر العيد في “بيانات وقيود التوثيق في المخطوط العربي” ص 107.
أما عباراته فكثيرة متنوعة يصعب استقصاؤها، منها:
(ملكه…)، (من كتب العبد…)، (تملكه العبد الفقير…)، (ثم دخل في ملك…)، (في نوبة العبد…)، (انتقل بالشراء الشرعي…)، (انتقل بمنه تعالى لذمة…)، (قد صار من عوادي الزمان وودائع الدوران في يد…)، (مما أنعم الله به…)، وغيرها… وانظر “بيانات وقيود التوثيق في المخطوط العربي” لحاج قويدر العيد ص 107-108.
ومن عباراتهم تلك العجيبة الغريبة الملغزة -ما نعالجه في هذا الصدد، ونكشف عن ضبطه اللثام- ما تكررت فيه (من) ست مرات، وووقفت على نموذجين منها، الأول نشره الدكتور إبراهيم عبد العزيز اليحيى -رئيس قسم المخطوطات في مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض على حسابه الخاص في (التويتر)، والثاني ذيل به على الأول الدكتور عبد الحميد الكراني -أستاذ الفقه المشارك بالجامعة السعودية الإلكترونية-، ثم وقفت بعدُ على نماذج أخرى..
الأول: “مِنْ مَنِّ مَنْ مَنَّ مِنْ مَنٍّ وَفَى على الفقير محمد بن الشيخ بن عبد الرحيم الطواقي البصروي في سنة 1138”.
الثاني: “مِنْ مَنِّ مَنْ مَنَّ مِن مَنٍّ بمنِّه العظيم لعبده أفقر الورى محمد بن مصطفى كتخدا غفر لهما”.
(زائدة):
(كتخدا) لفظ تركي -فارسي أصله كدخدا ومعناه «رب الدار»، وأصبح فيما بعد لقبا بمعنى: حاكم أو عمدة.
ورد ذكره في بعض المصادر: كتختا، وأحيانا كيخيا أو كيخا.
أطلق على أمراء الأقاليم في الدويلات الإسلامية الشرقية وفي العهد العثماني اعتمد هذا اللقب رسميا فأصبح يطلق بصفة أساسية على كل معاون أو مساعد للموظف الكبير في الدولة. أما على مستوى الإنكشارية فقد ارتبط هذا اللقب بالمعاون الأول لآغا الانكشارية وكان يرمز إليه بلفظ كتخداسي.
انظر “معجم المصطلحات والألقاب التاريخية” لمصطفى عبد الكريم الخطيب ص 363.
الثالث: “مِنْ مَنِّ مَنْ مَنَّ مِنْ فضله على أفقر عبيده عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر البجادي الأُشَيْقِرِيِّ سنة 1337”.
رابعا: يا مَنْ مَنَّ مِنْ مَنٍّ، مِنْ مَنِّ مَنْ مَنَّ به الكريمُ المَنَّان.
و لا أدري متى بدأ هذا الاستعمال؟! والجزم بشيء من ذلك لا يكون إلا بتتبع واستقراء..
هذا آخر ما تيسر من المقصود.. ولا أنسى أن أشكر الأساتذة والمشايخ الفضلاء الذين لم يبخلوا بالفائدة فيما يخدم هذه الكتابة:
الدكتور إبراهيم أزوغ -حفظه الله-
الشيخ علي بن حسن الحلبي -رحمه الله-
الدكتور صابر بدوي -حفظه الله-
الأستاذ أبو شذا محمود النحال -حفظه الله-
وقد كان البدء في هذه الكتابة منذ شهور، وبقي علي تبييضها فلم يقدر إلا الساعة فلله الحمد والمنة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب حامداً ومصليا، -راغبا في نشر الفائدة العلمية- راجي عفو ربه الغني: إسماعيل المقدم عامله الله بلطفه الخفي، وغفر له، ولوالديه، ولمشايخه، وللمسلمين.
ليلة الجمعة 7 رجب 1442هـ الموافق لـ 19 فبراير 2021ن.
بفاس حرسها الله ورفع عنها البلاء والوباء وسائر البلاد.
0 تعليق